لمحة تقنية: التعرف على القزحية (Iris Recognition) هو طريقة تحديد هوية الأفراد عبر تحليل النمط الفريد لقزحية العين. القزحية هي الحلقة الملونة حول حدقة العين، وتحمل تفاصيل نسيجية بالغة التعقيد تميز كل شخص عن غيره – بل وتختلف حتى بين العين اليسرى واليمنى لنفس الفرد. تقوم أنظمة التعرف على القزحية بالتقاط صورة عالية الدقة للعين باستخدام كاميرا مزودة بإضاءة تحت الحمراء القريبة (لتوضيح معالم القزحية)، ثم تُحوِّل هذه الصورة إلى قالب رقمي مشفر يحتوي على الخصائص المميزة للقزحية. يعتمد النظام على خوارزميات رياضية متقدمة لاستخراج ما يزيد عن 240 نقطة مميزة (أو درجة حرية) في نسيج القزحية. هذا يجعل بصمة القزحية إحدى أغنى البصمات البيومترية بالمعلومات؛ إذ تحمل القزحية بيانات أكثر من تلك الموجودة في الوجه أو الأصابع مجتمعة.
تمتاز تقنية القزحية بأنها من أدق وسائل التعرف الحيوي المتاحة تجاريًا. تشير الدراسات إلى أن احتمال تطابق قزحية عينين لشخصين مختلفين هو شبه مستحيل (يُقدّر بنسبة 1 في 10^78) ، أي رقم فلكي يبيّن تفرد كل قزحية. ولهذا يصل معدل الخطأ من جهة القبول الخاطئ (FAR) إلى مستويات منخفضة جدًا تقارب 1 في 1.2 مليون بحسب بعض المنصات الاحترافية – ما يعني صعوبة أن يخدع شخص نظام القزحية بانتحال هوية شخص آخر. ومما يزيد من دقة هذه التقنية أنها لا تعتمد على تدخل بشري في ضبط معايير المطابقة؛ فالخوارزمية هي من تقرر التطابق ضمن حدود إحصائية دقيقة دون حاجة لضبط يدوي لل thresholds، بخلاف بعض تقنيات البصمة الأخرى التي قد تتطلب معايرة من المشغل.
ميزة أخرى مهمة للقزحية هي الاستقرار والثبات مع الزمن. أثبتت الأبحاث أن نمط القزحية يتشكل كليًا عند عمر 10 أشهر تقريبًا ولا يتغير طوال الحياة على عكس معظم السمات الحيوية الأخرى التي قد تتأثر بالعمر أو الظروف (كالوجه الذي قد يتغير مع العمر والوزن، أو بصمات الأصابع التي قد تُبلى بسبب العمل اليدوي أو الإصابات)، تبقى القزحية ثابتة من سن الطفولة المبكرة حتى الوفاة. هذا الثبات يقلل من حاجة إعادة التسجيل المستمر للمستخدمين، بعكس مثلا بصمة اليد التي قد تستدعي تحديثًا إذا تعرضت لتغيّرات ملحوظة. كذلك، تقنية القزحية سريعة جدًا في المطابقة والبحث ضمن قواعد البيانات الكبيرة؛ فقد أظهرت دراسة للمختبر الفيزيائي الوطني في المملكة المتحدة أن أنظمة القزحية حققت سرعة مطابقة تفوق أقرب منافساتها بحوالي 20 ضعفًا في الدقيقة. لذا فإن القزحية هي التقنية الأنسب للتعرف الفوري 1:N على عدد ضخم من الأفراد في الوقت الحقيقي.
ومن ناحية الملاءمة وسهولة الاستخدام، تعتبر القزحية طريقة غير تلامسية تمامًا؛ فالتعرف يتم عن بعد دون أي تماس جسدي بين الشخص والجهاز. يكفي أن يقف الشخص على بعد من الكاميرا (عادة حوالي 30 إلى 60 سم بالنسبة للأجهزة المكتبية، وتصل إلى متر أو أكثر في الأنظمة المتقدمة) لتنطلق عملية المسح. لا تستخدم الإضاءة الخاصة بهذه الأجهزة أي أشعة ضارة أو ليزر؛ بل هي مجرد أشعة تحت الحمراء منخفضة الطاقة وغير مرئية للعين، ولا تسبب أي إزعاج أو ضرر. وبالتالي فإن التقنية مريحة وآمنة صحيًا حتى للاستخدام المتكرر. كما أن بإمكان أنظمة القزحية الحديثة التعامل مع عدة حالات كانت تعتبر تحديًا: فمثلاً ارتداء النظارات أو العدسات الطبية لا يمنع التعرف، لأن الأشعة تحت الحمراء تخترق العدسة الشفافة دون مشكلة. وحتى لو كان الشخص يرتدي قناعًا يغطي الأنف والفم (كما في ظروف الجائحة)، يبقى التعرف على قزحية العين ممكنًا بلا تأثر، وهذه ميزة تتفوق فيها القزحية بوضوح على تقنية التعرف على الوجه التقليدية.
تتمتع أنظمة القزحية بخصائص أمنية مضمنة تسمى كشف التزييف أو فحص حيوية العين (Liveness Detection). على سبيل المثال، لا يمكن خداع النظام بصورة فوتوغرافية للعين؛ إذ تتحقق الكاميرا من وجود أنماط انعكاس تشير إلى أن العين حية وتستجيب للضوء. بعض الأنظمة تفحص أيضًا التغيرات الدقيقة في حدقة العين كاستجابة للإضاءة أو تطلب من الشخص أن يقوم بغمزة أو حركة عين بسيطة أثناء الالتقاط، للتأكد من أن العملية ليست مجرد صورة ثابتة. وقد ذكرت شركة Iris ID مثلًا أن أنظمتها مزودة بخاصية PAD (عرض تقديمي للهجوم) التي تضمن أن الهدف هو شخص حي، وأي محاولة لاستخدام صورة للوجه أو عين صناعية سوف تُرفض فورًا.
من الميزات الأخرى أنّ صغر حجم القوالب البيومترية للقزحية (512 بايت فقط للقالب الواحد) يسهّل تخزين ملايين السجلات والبحث فيها بسرعة دون إرهاق الأنظمة. هذا يجعلها قابلة للتوسّع Scalable لقاعدة بيانات وطنية ضخمة أو مشاريع تتطلب التحقق من الهوية في ثوانٍ ضمن ملايين السجلات. وهي بذلك مناسبة تمامًا للتطبيقات الوطنية كأنظمة الهوية والجوازات الإلكترونية، حيث يجب التحقق خلال ثوانٍ من مقدم الخدمة مقابل قاعدة بيانات تضم ملايين المواطنين.
نظراً لهذه الخصائص، انتشر استخدام تقنية القزحية في عدة مجالات حساسة تتطلب دقة عالية. فعلى سبيل المثال، تعد القزحية خيارًا مثاليًا للتحقق الآمن في منشآت البنية التحتية الحرجة كالمحطات النووية ومراكز البيانات، حيث تم اعتمادها نظرًا لدقتها واستحالة مشاركة رمز أو بطاقة (إذ إن العين جزء لا يتجزأ من الشخص). كذلك تُستخدم أنظمة القزحية في المطارات والمعابر الحدودية لتسريع مرور المسافرين الموثوقين. في مطار دبي الدولي – أحد أكثر المطارات ازدحامًا في العالم – هناك نظام الممر الذكي الذي يتيح للمسافر إنهاء إجراءات الجوازات في ثوانٍ عبر السير خلال نفق مزوّد بكاميرات قزحية ووجه متقدمة. هذا النظام يستخدم التعرف على القزحية والوجه معًا بشكل آلي، ما ألغى حاجة المسافرين لإبراز جوازات سفرهم في بعض المساراتوقد سجلت هذه التقنية نجاحًا كبيرًا في تقليل أوقات الانتظار وتعزيز انسيابية الحركة عبر الحدود مع الحفاظ على أعلى مستوى أمان.
وفي قطاع إنفاذ القانون، بدأت شرطة بعض الدول باستخدام ماسحات قزحية محمولة لتحديد هوية المشتبه بهم في الميدان أو السجون. فعلى سبيل المثال، وفرت شركة Iris ID أجهزة محمولة استخدمت في الولايات المتحدة للتحقق السريع من هوية المحتجزين عبر القزحية، مما أعطى نتائج إيجابية لدقة التأكيد . القزحية أيضاً جذبت اهتمام المشاريع الإنسانية؛ حيث تم استخدامها لتوزيع المساعدات للاجئين لضمان عدم الازدواجية في الصرف. وفي هذا السياق، طبق برنامج الأغذية العالمي تقنية قزحية العين لصرف المعونات للاجئين السوريين في الأردن عبر أجهزة الصراف الآلي بدون بطاقات: إذ يكفي أن يقف الشخص أمام الكاميرا ليتم سحب المبلغ المخصص له بعد التحقق من هويته بواسطة القزحية هذه المبادرة (بالتعاون مع IrisGuard) فازت بجوائز لأنها وفرت حلاً آمنًا يحفظ كرامة المستفيدين ويوفر عليهم حمل أي وثائق أو بطاقات.
على الرغم من مزاياها، واجهت تقنية القزحية تحديات في بداياتها مثل التكلفة العالية نسبيًا للأجهزة مقارنة بقارئات البصمة التقليدية وحساسية الأداء على جودة الكاميرا والظروف البصرية. لكن مع التقدم الحالي باتت هذه العوائق أقل تأثيرًا؛ فأسعار الأجهزة تنخفض تدريجيًا، وأصبحت الكاميرات أكثر اعتمادية حتى في ظروف الإضاءة المختلفة. كما طورت الشركات حلولًا للتغلب على مشكلة وهج الإضاءة أو الانعكاسات (خاصة لمن يرتدي عدسات لاصقة لامعة) عبر معالجات برمجية متقدمة.
تبقى قزحية العين ذهب المعايير بالنسبة للأماكن التي تتطلب أعلى مستويات الأمن والدقة. فهي توفر مزيجًا فريدًا من الدقة الفائقة والسرعة وعدم التلامس والخصوصية (إذ يصعب جمع بصمة القزحية دون علم الشخص على عكس تصوير الوجه مثلًا). ومع ازدياد تقبل الجمهور لها بفضل انتشار الحالات الناجحة، يُتوقع توسع نطاق استخدامها مستقبلًا في مزيد من المطارات والحدود، بل وربما في التطبيقات المدنية كالدفع الإلكتروني الآمن والحسابات البنكية.