لمحة تقنية: التعرف على الوجه (Face Recognition) هو أشهر تقنيات البيومتريك لدى العامة، كونه يعتمد على ملامح الوجه الذي اعتاد الناس استخدامه للتعرف على بعضهم منذ الأزل. تعتمد أنظمة التعرف الآلي على الوجه على كاميرات رقمية تلتقط صورة أو فيديو لوجه الشخص، ثم تحلل الخوارزميات تلك الصورة لاستخراج خصائص معرفية (face template) تميز هذا الوجه عن غيره. من أهم هذه الخصائص نسبة المسافات بين مكونات الوجه مثل العينين والأنف والفم، وشكل حدود الفك والذقن، ومعالم أخرى كالتعرّجات في البشرة. مع التطور الكبير في مجال الذكاء الاصطناعي والتعلم العميق، أصبحت أنظمة الوجه الحديثة أكثر دقة لأنها باتت تعتمد على شبكات عصبية تتعلم ملايين المعالم الصغيرة من الوجوه، بدلاً من الاقتصار على قياسات هندسية محدودة عمليًا، تمر عملية التعرف بخطوات تشمل: كشف وجود وجه في الصورة أولًا، ثم تحديد نقاط مميزة (Landmarks) – كنقطة منتصف كل عين وأطراف الشفتين – ومن ثم بناء بردية رقمية (Vector) تمثل الوجه. وعند المقارنة، يُحسب مدى تقارب هذه البردية مع قوالب مخزنة في قاعدة البيانات لأشخاص معروفين لتقرير هوية الشخص أو للتحقق من أنه نفس الشخص صاحب الهوية المتحقَّق منها.
يمتاز التعرف على الوجه بأنه طبيعي وتلقائي إلى حد كبير؛ فالبشر أنفسهم يستخدمون الوجوه كوسيلة أولى للتعرّف على الآخرين. وبالتالي فإن إدخال هذه التقنية في التطبيقات لا يواجه مقاومة كبيرة عادة، خاصة في الوظائف غير الأمنية (مثل فتح قفل الهاتف الذكي). كما أن التعرف على الوجه هو تقنية غير تلامسية بالكامل – فالشخص لا يحتاج للمس أي جهاز بل يكفي أن تقع وجهه ضمن مجال رؤية الكاميرا . هذا الأمر مهم جدًا في السياقات التي تتطلب النظافة أو الراحة (مثل أنظمة الحضور والانصراف في زمن الجوائح حيث يُفضّل عدم لمس أجهزة البصمة التقليدية). ومن مزاياها كذلك السرعة الفائقة في التنفيذ، فالكاميرات الحديثة مزودة بوحدات معالجة يمكنها إتمام التعرف خلال أجزاء من الثانية حتى لقواعد بيانات كبيرة، مما يجعلها مناسبة للتعرف الجماعي السريع (مثلاً مسح وجوه الحشود في الوقت الحقيقي كما في المطارات أو الملاعب). وتشير تقارير صناعية إلى أن التعرف على الوجه قابل للتوسّع بسهولة ليراقب حشود كبيرة أو أماكن عامة دون الحاجة لإجراءات خاصة من الأشخاص (فلا توقف ولا اتصال مباشر)، ما يجعلها أداة فعالة للمراقبة العامة والرقابة الأمنية.
من مزايا تقنية الوجه الحديثة أيضًا أنها أصبحت تعمل جيدًا عبر المنصات المتنقلة – أي يمكن أن تعمل بكفاءة على كاميرا هاتف ذكي عادي. على سبيل المثال، طورت شركات مثل TECH5 حلولًا مثل T5-AirSnap Face تمكن من التقاط صورة الوجه من خلال تطبيق هاتف ذكي خلال 100 ميللي ثانية فقط، مع استخدام الذكاء الاصطناعي لتحسين الجودة والتحقق من حيوية الصورة هذا يعني إمكانية دمج التحقق بالوجه في التطبيقات اليومية كالتطبيقات البنكية أو الحكومية لتأكيد هوية المستخدم عن بُعد، مما يوفر مرونة عالية في الاستخدام أينما كان الفرد.
بالرغم من كل ما سبق، يواجه التعرف على الوجه تحديات تؤثر على دقته وفعاليته في بعض الحالات. من أبرزها التفاوت في الأداء بسبب ظروف الإضاءة والتغييرات الشكلية للشخص. فعلى عكس القزحية أو البصمة التي تبقى ثابتة نسبياً، يتأثر الوجه بالإضاءة (ضوء الشمس الساطع مقابل الظل قد يخفي ملامح)، وزوايا الكاميرا (زاوية جانبية قد لا تبيّن كافة الملامح)، كما أن تغيّر تعابير الوجه أو ارتداء مستلزمات كالقبعات والنظارات وأقنعة الوجه يمكن أن يعرقل النظام على سبيل المثال، خلال جائحة كورونا ومع ارتداء الكمامات على نطاق واسع، ضعفت دقة أنظمة التعرف على الوجه التقليدية إلى حد كبير لأن نصف الوجه السفلي أصبح مغطى. وقد دفع هذا الكثير من الشركات إلى تحديث خوارزمياتها لأخذ الجزء العلوي (العينين ومحيطهما) بعين الاعتبار بشكل أكبر، أو الجمع مع بصمات أخرى للتعويض. أيضاً نمو اللحية أو تغيير قصة الشعر قد يخدع الأنظمة محدودة القدرات.
هناك أيضًا مسألة الخصوصية التي تعتبر تحديًا اجتماعيًا وتقنيًا. فالتعرف على الوجه يمكن استخدامه للمراقبة عن بعد دون علم الأفراد (كما يحدث في أنظمة المراقبة الأمنية عبر الكاميرات العامة)، مما يثير قلقًا بشأن انتهاك الخصوصيات أو التتبع غير المصرح به. بعض الدول وضعت قوانين تنظم أو تمنع استخدام التعرف على الوجه في الأماكن العامة بدون ضوابط صارمة. وبالتالي على الشركات العاملة في هذا المجال طمأنة الجمهور بأن التقنيات ستستخدم بشكل مسؤول وموافق للقوانين. في الإمارات مثلاً، استراتيجية الهوية الرقمية الجديدة التي أعلن عنها تشمل التعرف على الوجه كبديل لبطاقات الهوية، وتم التأكيد على أن النظام مدعوم بالذكاء الاصطناعي مع مراعاة حماية البيانات.
من الناحية التقنية، لا تصل دقة التعرف على الوجه – رغم تقدمها – إلى مستوى دقة القزحية أو البصمة في أغلب الظروف. إذ تشير المقارنات العامة إلى أن نسبة الخطأ في الوجه تبقى أعلى قليلًا من القزحية، خاصة عند البحث ضمن قواعد ضخمة. وعلى سبيل المثال، في ظروف الإضاءة السيئة أو إذا كان الشخص يُميل رأسه بدرجة كبيرة، قد يعطي النظام تطابقًا خاطئًا أو يفشل في التعرف كليًا. لكن الجدير بالذكر أن الأبحاث الحديثة والشبكات العصبية العميقة حسّنت الأداء بشكل لافت، حتى أن بعض اختبارات المنظمات العالمية (مثل NIST في الولايات المتحدة) أظهرت أن أفضل خوارزميات الوجه الآن تنافس البصمة في بعض معايير الدقة، وخاصة عندما يكون الوجه مكشوفًا تمامًا أمام الكاميرا وبجودة صورة عالية.
تنتشر تقنية التعرف على الوجه اليوم في عدة مجالات. أحد أكثر التطبيقات شيوعًا هو التحقق من الهوية في الأجهزة الذكية، مثل خاصية Face ID في هواتف آبل، والتي تتيح فتح قفل الهاتف أو تأكيد المدفوعات الإلكترونية عبر النظر إلى الشاشة. هذه التقنية أثبتت موثوقية عالية وسرعة بحيث أصبحت مفضلة لدى الكثيرين على إدخال كلمات المرور أو حتى استخدام البصمة في الهواتف. كما تُستخدم كاميرات التعرف على الوجه في أنظمة الدخول إلى المباني والمنشآت؛ حيث يكفي الموظف أن يقترب من بوابة الدخول ليتعرف عليه النظام ويفتح الباب له تلقائيًا إذا كان مصرحًا له (وهذا مفيد لأنه لا يتطلب توقف الموظف وتمرير بطاقة تعريف أو بصمة). بعض الشركات دمجت هذه الخاصية مع قياس حرارة الجسم بعد جائحة كورونا، بحيث يتحقق الجهاز من هوية الموظف ومن درجة حرارته في آن واحد قبل السماح له بالدخول.
في المطارات والمنافذ الحدودية، أصبح التعرف على الوجه حجر الزاوية في فكرة “السفر الذكي”. ضمن مطارات الإمارات مثلاً، تم تطبيق مسارات تعتمد كليًا على بيانات الوجه. يُذكر أن مطار أبوظبي الدولي في مشروع “السفر البيومتري” 2024 يقوم بتوثيق بصمة وجه الراكب أثناء إنهاء إجراءات السفر، بحيث يمكنه عبور نقاط التفتيش وصعود الطائرة عبر مسارات مخصصة بمجرد مطابقة وجهه دون الحاجة لإبراز أي وثائق وكذلك الحال في مطار دبي حيث بوابات الصعود لبعض الرحلات تستخدم كاميرات لمطابقة الوجه مع جواز السفر البيومتري خلال لحظات. هذه الأنظمة رفعت كفاءة الإجراءات الأمنية بشكل ملحوظ وخففت الازدحام
في قطاعات التجزئة والترفيه، بدأنا نرى استخدامات للتعرف على الوجه من باب تحسين التجربة أو الأمن. فبعض المتاجر تعرض خدمة الدفع بالوجه – حيث يسجل الزبون صورته مع بيانات دفعه مسبقًا ثم يمكنه الشراء بمجرد النظر إلى الكاميرا عند الخروج لتتم عملية الدفع آليًا (مشابهة لفكرة أمازون Go ولكن باستخدام الوجه). أيضًا يُستخدم التعرف على الوجه في أنظمة التذاكر الذكية؛ فقد جرّبت بعض الملاعب أنظمة تتيح للجماهير دخول الإستاد بعد التحقق من وجوههم المرتبطة بتذاكرهم الرقمية، مما يمنع التزوير ويزيد السرعة.
وفي المجال الأمني والشرطي، تعتمد أنظمة المراقبة بالفيديو الحديثة على تحليلات التعرف على الوجه للتنبيه عن الأشخاص المشتبه بهم أو المطلوبين لدى مرورهم أمام كاميرات المراقبة في الأماكن العامة. وعلى الرغم من الجدل الأخلاقي حول هذا الاستخدام، إلا أنه تقنيًا ممكن وقد استخدم فعلًا في مدن لمراقبة أحداث كبرى (مثل أولمبياد طوكيو 2021 حيث ذكر استخدام التعرف على الوجه لمراقبة ساحات البطولة). كما تم توظيف التقنيات نفسها للتعرف على الوجوه في الصور ومقاطع الفيديو ضمن التحقيقات الجنائية، كأداة مساعدة لتسريع عملية تحديد الهوية.
التعرف على الوجه تقنية سهلة التطبيق على نطاق واسع بسبب توفر الكاميرات في كل مكان تقريبًا، ولأنها لا تتطلب تدخل المستخدم (على عكس ضرورة وقوف الشخص ووضع إصبعه على ماسح مثلاً). ورغم أن دقتها تحسنت كثيرًا فإننا نرى غالبًا اعتماد الحلول متعددة الوسائل لتحقيق أعلى ثقة – كدمج الوجه مع القزحية في أنظمة التحكم بالدخول عالية الأمان، أو استخدام الوجه كبصمة أولية سريعة ثم طلب بصمة الإصبع لتأكيد إضافي عند الشك. وهذه المزاوجة تحقق توازنًا جيدًا بين الراحة التي يوفرها التعرف على الوجه والدقة التي توفرها البصمات الأخرى. ومع تبني الإمارات مثلاً التوسع في استعمال بصمة الوجه على المستوى الوطني (للوصول للخدمات الحكومية وبديل للهوية) ، يُتوقع أن يزداد تقبّل المجتمع لها وترتفع كفاءتها أكثر مع تغذية الأنظمة ببيانات أوسع وتنقيح الخوارزميات باستمرار.